← رجوع تم النشر في

عن العزلة والإبداع

أنهيتُ منذ بضعة أيام كتاب "اختراع العزلة" للكاتب الأميركي بول أوستر، الذي يحكي فيه عن عزلة والده، وعن عزلته شخصيًّا وعن عزلة الكاتب التي نجد سبيلًا إليها عبر قراءة ما كتبه في تلك العزلة فيقول عن عزلته للكتابة:

"هناك حيث يكون مربع الخشب (الطاولة) وعليه ورقة بيضاء، وكرسي أحركّه يمنةً ويسرى وإلى الأمام والخلف، هو كل ما يشكّل العالم المحسوس بالنسبة لي".. فتذكرت مصطلحًا قرأته منذ مدة حول مضار مواقع التواصل الاجتماعي، والتي كان من جملتها حرمان المستخدمين من عزلتهم (solitude deprivation)، حيث لم يعد للعزلة مكان في حياة البشر، ما أن تختلي بنفسك حتى تمسك هاتفك وتحادث صديقًا، أو تتصفح التطبيقات المتنوعة، وهذا كله يحرمنا من العزلة، من الملل الضروري للوصول إلى تخوم الإبداع البشري، فأنت عندما تمل، تتفكر في ذاتك، أو في ذوات الأشياء والأشخاص حولك، أو تغرف من ذاكرتك مشاهد متنوعة، تعينك كلها على الإبداع، وغالبًا ما تعني العزلة الهدوء والصمت، مما يتيح التدفق الذهني الضروري لعملية الإبداع،إذ يجد الكاتب سبيلًا لسماع صوته الداخلي، ومحادثة ورؤية شخوصه، والعيش معهم، تلك الشخوص التي تفرُّ حالما يمتلئ الفراغ ضجيجًا أو فوضى، وحتى الأفكار تلك العناصر المجنحة التي يعزُّ صيدها في خضم الحياة الصاخبة، ولا تخرج تلك الخجولة إلا في عزلة مناسبة فيتاح لها التدفق بحريّة على الورق أو اللوحة.. وقد تكون العزلة الاختيارية حالة خاصّة من التركيز وتكريس الجهود للعمل، حيث تستمر بالتواصل مع العالم بحذر، كأنك تنظر إليه خلسة لتلتقط حيوات تكتب عنها، أو مواقف يومية مُلهمة، والعزلة الطوعية - حسب علماء النفس- هي المجدية في سير العملية الإبداعية..

يقول فرانز كافكا الذي كتب مؤلفاته في ليالي أرقه الطويلة:

"اجلس إلى طاولتك واستمع.. انتظر وكن هادئًا.. وبحريّة سيقدم لك العالم نفسه.. سيكشف لك عن قناعه"

والعزلة تختلف عن الوحدة، ذلك أنّ الوحدة شعور مؤلم بالخواء، قد يتمخّض أحيانًا عن عمل إبداعي، لكن العزلة سلوك طوعي هادف، وقد يكون متقطعًا..

وقد أدرك المبدعون أهمية العزلة للعملية الإبداعية منذ مدة طويلة فنجد أن معتكفات الكتّاب الإبداعية منتشرة منذ منتصف القرن الماضي، مثل المعتكف الكتابي الذي انضمت إليه الكاتبة الأمريكية سلڤيا بلاث مع زوجها الشاعر تيد هيوز، وما زالت تلك المعتكفات متوفرة حتى الآن في معظم بلدان العالم، حيث تقدم بيئة مريحة وهادئة خالية من أي ملهيات ومشتتات للأدباء، إضافة إلى عناصر أخرى مُلهمة مثل إطلالة خلّابة أو غيرها.

الكتابة عملية استماع أولًا للصوت الذي يكون خفيًا في خضم الحياة، قد يهمس لك في الحافلة، أو في الشارع، لكن لا يسمح لك أن تمسكه وتحاكيه على الورق، إلا في عزلتك التي تقدمها قربانًا لوجوده.

يقول بيكاسو:

"بدون عزلة كبيرة، لا يمكن لعمل جاد أن يُنجَز أبدًا"

وعن ابتعاد الكاتب عن عزلته يقول بول أوستر عن نفسه:

"كان شعورًا بالخذلان أن يعود إلى غرفته منهكًا لا يجد سوى هذا الحيز الكئيب، فهو بمكوثه لفترات طويلة ومتصلة في تلك الغرفة، كان يقوم بشحنها بالأفكار، وخروجه منها يسبب في تبديد الحميمية التي يحاول نسجها، إذ تفرّغ الغرفة نفسها في أثناء غيابه، وتمحو كل جهوده لجعلها مسكونة، مما يضطره للبدء من جديد عند عودته في كل مرة"..

والآن أفكّر في مستقبل الأدب والإبداع عامّة في ظل غياب العزلة الخلّاقة، في ظل حبسها في قفص سجّانه الهاتف والحيوات المزيفة التي تسكنه.. وكم سيصعب على الكتّاب التقاط الأصوات القصيّة ومرافقة شخوصهم المتخيَّلة، محاطين بعقبات التشتت والإغواء التقني، التي ستحوّل العالم إلى خواءٍ مؤلم يفتقر إلى الجمال والإبداع والعزلة اللذيذة..